يقلم : فواز طرابلسي آن الأوان للعمليات الجارية في المنطقة العربية على امتداد العام الفائت أن تتخذ تسميتها المناسبة نحن شهود على ثور...
يقلم : فواز طرابلسي |
نحن شهود على ثورات. مادتها الرئيسية جماهير واسعة تعبر عن نفسها من خلال الحضور اليومي للملايين في الشوارع والساحات والميادين والدوارات على امتداد سنة بأكملها ـ وهو امتداد زمني نادرا ما تسنّى لعملية ثورية بهذا الحجم والاتساع على مدى بلدان عربية عدة.
وهي ثورة ذات طابع جذري صارخ. إسقاط أربعة حكام استبداديين، وتقديم ثلاثة منهم الى المحاكمة بتهم تتعلّق بالمسؤولية عن قتل المحتجين السلميين والفساد.
لقد خلخلت أركان الانظمة الاستبدادية في المنطقة وطرحت تحديات عديدة على توازنات القوى الاقليمية والدولية. والى هذا، نجحت العمليات الثورية الى الآن في قطع الطريق أمام التضحية بالحكام من أجل إنقاذ الاسس التي تقوم عليها أنظمة الاستبداد: ركيزتها العسكرية ـ الامنية، آلياتها الاقتصادية المافياوية، تسلّط الحزب الواحد او العائلة الواحدة أو العشيرة الواحدة على السلطة والثروة، حكم الرئيس الاوحد مطلق الصلاحيات، وغلبة السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية.
بناء عليه، نحن إزاء ثورات ديمقراطية. والديمقراطية في بلادنا ثورة، تحديدا لأنها تسعى الى تفكيك أنظمة الاستبداد تلك والتحويل الجذري لعلاقات الحكام والمحكومين وفق تعاقد جديد يقوم على انتخاب المحكومين لحكامهم ومحاسبتهم واستبدالهم عند الحاجة وفقا لدساتير ذات مرجعية مدنية، تكرس حياد الدولة الديني والمساواة السياسية والقانونية بين المواطنين وفي مؤسسات ووفق قوانين تضمن لهم ذلك.
والعمليات الجماهيرية الجارية ثورات لأنها تعيد الاعتبار الى الارادة الذاتية المستقلة للجماهير العربية في الفعل والتأثير والاختيار. ولكن بقدر ما هي مستقلة تتعاظم محاولات ضبطها واحتوائها والاستيعاب، الاقليمية والدولية. والسباق سباق وقت.
تتشكل الآن شرعيتان: شرعية شكلية عجولة، تواطأت عليها قوى المعارضة التقليدية مع قوى الردة العربية والغربية، لاستعجال الانتخابات النيابية والرئاسية وتشكيل الحكومات بحيث تقطع الطريق على ان تلقي الجماهير بوزنها ومفاعيل ثوراتها على الدساتير والقوانين الانتخابية والمؤسسات.
وشرعية ثانية هي الشرعية الشعبية الثورية، المتحركة في الشوارع والساحات والميادين والدوّارات.
من هنا ان الجامع المشترك بين هذه القوى المحلية والخارجية هو السعي لاخراج الجماهير من الشارع ومن القدرة على الفعل والتأثير والتغيير. هي عملية جارية ومتسلسلة منذ مطلع العام المنصرم. من قمع اعتصام «ساحة الساعة» في حمص، الى احتلال «دوار اللؤلؤة » في البحرين، الى مجزرة «ساحة التغيير» في صنعاء والقصف المدفعي على مدينة تعزّ، وقطع الطريق على وصول المحتجين السوريين الى ميادين حماه وحمص ودمشق بالنار، خلال زيارة مراقبي الجامعة العربية، وصولا الى سدّ المزيد من المداخل الى ميدان التحرير في القاهرة في الايام الاخيرة. فليس صدفة ان ينطوي كل مشروع وساطة عربي او اقليمي او دولي على بند يتعلق بإخلاء الساحات والميادين والشوارع. ولا هو بالغريب ان يدافع السفير الاميركي في صنعاء عن اطلاق القوات الموالية لعلي عبدالله صالح النار على مسيرة سلمية تحركت من تعز الى صنعاء تحت شعار «مسيرة الحياة» على اعتبار انها تظاهرة «استفزازية»!
حقا إن الحياة مستفزّة!
وحقا ان بقاء الثورة بات رهنا ببقائها في الشارع. خصوصا ان لاخراج الجماهير من الشارع وظيفة اخرى هي قطع الطريق على عدوى الثورات من الوصول الى منطقة «الامن النفطي» وأنظمتها السلالية التي لا تدري كم هي تساهم في «جَلْب الدب الى كَرْمِها» بترويجها للثورات الجارية والتدخل فيها ولو من قبيل احتوائها. واذا كان ثمة من توقع للعام المقبل فهو توقع هذا الانتشار للعدوى الثورية.
ولكن لم يعد الحديث عن استمرارية الثورة بالشأن البسيط او المعطى سلفا. تنهض في وجهها حجج واتهامات تبدأ بالفوضى والتآمر ولا تنتهي مع تخريب الاقتصاد. من هنا ان طاقة الاحتمال المدهشة التي نمّت عنها الجماهير الثائرة تقف الآن امام امتحان القدرة على الاستمرار. وهو الاسم الآخر للفوز في سباق الوقت مع قوى الردة الداخلية والخارجية.
وأول مسألة هنا هي القدرة على إشراك القوى الاجتماعية ذات المصلحة في الثورة. عندما انطلقت الثورات حاملة شعار «عمل، حرية، خبز»، لم تكن تعين الاهداف فقط، كانت تعلن المشاكل الرئيسية التي دفعت بالملايين الى الثورة ـ من أرياف سوريا واليمن الى العاطلين عن العمل في المغرب مرورا بعشوائيات المدن المصرية على سبيل المثال لا الحصر، نعني: البطالة، الاستبداد، والفوارق المناطقية والاجتماعية. وليس صدفة ان تتلاقى قوى الحفاظ على الامر الواقع على فصل الصلات بين المطالب السياسية والمطالب الاقتصادية والاجتماعية. تبدأ المحاولات هنا بتجريم التحركات الاجتماعية، من اضرابات واعتصامات عمالية وتحركات فلاحية، كما في حالة مصر، ولا تنتهي مع افتتاح الرئيس التونسي الجديد المنصف المرزوقي ولايته بإعلان «هدنة اجتماعية» لمدة ستة اشهر. والكل يسعى لتطمين مؤسسات العولمة الرأسمالية النيوليبرالية والمستثمرين الاجانب.
إن تأمين استمرارية الثورات بات يعني إعادة شحن الطاقات الشبابية الجديدة بمولّدات الزخم الكامنة في الحركات والاحتجاجات الاجتماعية.
واما المسألة الثانية فتتعلق بالاشكال التنظيمية. لم تكن عفوية الثورات صدفة من الصدف. نتجت عن تعادل بين جهازين للتمثيل والمطالبة ادى الى شلل الاثنين. فمن جهة، بقايا أحزاب المعارضة القومية واليسارية خصوصا، وقد فقدت الرؤية والجاذبية، يكتفي معظمها بلعب دور «معارضة صاحبة الجلالة» واقصى الطموح الحدود الدنيا من المشاركة السياسية. ومن جهة ثانية، منظمات غير حكومية انتشرت كالنار في الهشيم بين الشباب والطبقات الوسطى خلال ربع القرن الاخير. الا انها من حيث أجنداتها المحكومة بالنيوليبرالية، ومصادر تمويلها، وفي تجزئتها قضايا المجتمع الى قطاعات منفصلة (حريات، ديمقراطية، مرأة، شباب، اقليات، بيئة، قيادة، فساد، تنمية ميكروية، الخ.)، وفي نزعتها التبشيرية والتربوية ادت الى نشر النفور من النشاط السياسي واسقطت مسألة السلطة من الحساب. فكم كان معبّرا ان تأتي الثورات بشعار يشكل تصحيحا نقديا بليغا للطرفين: الشعب يريد اسقاط النظام.
المطلوب الآن وضع دلالات هذا الشعار موضع التطبيق. من هنا ان استمرارية الثورة مرهونة بالحيلولة دون تحول عفويتها الى عبء عليها بعد ان كانت أحد عناصر قوتها. والسؤال هنا هو عن القدرة على رفد العفوية بمقدار من القيادة الواعية المسترشدة برؤية مجتمعية شاملة وعلى ابتكار أشكال جديدة من الوحدة والتنظيم ووسائل العمل تتجاوز الاشكال الحالية وترقى الى مستوى ما أطلقته الثورات من خيال وآمال
فواز طرابلسي
fawwaz.traboulsi@gmail.com
fawwaz.traboulsi@gmail.com
اقرأ للكاتب أبضا : فواز طرابلسى فى حوار خاص عن مصر والمنطقة: مسار الثورة غير قابل للارتداد
COMMENTS