ناجي العلي الفن العابر للأزمنة ( + فيلم وثائقي )

لست أتذكره في يوم محدد هو يوم إطلاق الرصاص على رأسه، هو الذي عاش حياته في مواجهة لا تنتهي، مُقبلاً لا مُدبرا، بجسد يميل قليلاً، لا ت...

لست أتذكره في يوم محدد هو يوم إطلاق الرصاص على رأسه، هو الذي عاش حياته في مواجهة لا تنتهي، مُقبلاً لا مُدبرا، بجسد يميل قليلاً، لا تفاديا للرصاص المحتمل المتربص، ولكن لثقل الحمل على كتفيه... ناجي حمل فلسطين، ومضى بها، من منفى إلى منفى، لم يشك، ولا تأفف، ولا فكّر في أن يتهرّب من ثقلها، هي التي تكسر الظهر، وتقصّر العمر، وتقوّس ظهر شيّال الحمل العنيد، المؤمن بلا تفضل، ولا تشوّف، بكامل حريته، هو المؤمن بأن فلسطين لا يحمل همها، ويسلك دربها، سوى الأحرار.
أتذكره، ولكن ليس في اليوم الذي سكت فيه قلبه، لا...
أتذكره مع كل صرخة غضب أم فلسطينية في وجه جندي صهيوني مُحتل صلف متغطرس، فأكرر الالتزام بالعهد: لا خيار لنا غير ما اخترت يا صاحبي.
أتذكره مع كل نظرة عين فلسطيني أسير، تعبر من بين القضبان، عارجة إلى السموات العلى، سابحة في فضاء فلسطين، متشوفة، حالمة، رائية.
أتذكره مع كل ضغطة إصبع على زناد بندقية مقاوم في عمق فلسطين، وكل فدائي متحفز يحلم بالعبور إلى فلسطين، متجاوزا العوائق التي تحرمه من افتدائها.
أتذكره وأنا أتأمل لوحاته، فأعيــــش معـــــها من جديد، هي التي تؤسس لوعي جذري يستحـــيل تزويره، وحرفه، والتلاعب به، لوحاته التي تنشط الذاكرة، وتجدد العهد، وترسم معالم الطريق إليها.
أتذكره بتمام حضوره، وهو يروي لنا حكاية جارته المشلولة في صيدا، تلك العجوز التي بقيت وحدها في الشقة، بعد أن هرب ذووها من تحت قصف طائرات العدو عام 1982، وكيف ظلّ يتردد على شقتها ليتفقدها، فيمسح العرق عن وجهها، ويقدم لها جرعة ماء ترطب فمها الجاف من شدة الخوف، ويحكي معها هي المصابة بالعجز عن الكلام، المرتجفة خوفا من القصف، المحبة للحياة، فيؤنسها، ويهدهد آلامها، ويخفف وحشتها.
تلك العجوز، عني بها كأنه ابنها، فعوضها عن الأهل الذين اضطروا للرحيل نجاة بأنفسهم، وبأطفالهم.
بالعناية بها دافع عن الحياة، عن صيدا التي نشأ وتربى في ربوعها، على مقربة من بحرها، بجوار صياديها..في مخيّم عين الحلوة.
رغم الطائرات والصورايخ التي تدك الأبنية حتى لتوشك أن تخسفها، واظب ناجي على المضي إليها، ليسقيها، ويطعمها ما تيسر، ويهدهد مخاوفها بالجلوس قربها، مُصغيا لما تقوله نظرات عينيها.
قال لنا ناجي، وقد التقينا في بيروت، بعد أن غامر بالانتقال من صيدا، ليؤدي دوره مع المقاومين دفاعا عن (ست الدنيا) ـ كما سمّاها الشاعر الكبير نزار قباني ـ بيروت، ممتشقا ريشته، منخرطا في رسم خطوط أعماله التي نشرت في صحيفة ( المعركة) التي كنّا نصدرها تحت القصف، وكنا من عدة أقطار عربية: نجت تلك الجارة العجوز، ولما عاد ذووها، واطمأنت نفسها، منحتني ابتسامة كبيرة، ونظرة لا تُنسى من عينيها الأموميتين..وتلك كانت أعظم جائزة أتلقاها في حياتي.
من هنا طلعت رسومات ناجي العلي، من المعاناة، من حب الحياة، من العلاقة مع الناس. من هنا تكوّن الوعي، ومن هنا طلع الفنان الثوري الميداني، ابن الشعب المُحب للحياة والمتسلح بالأمل.
ناجي الحي في لوحاته، وكلماته، ومواقفه، وعناده، وشهامته، هو الفلسطيني العربي الإنسان، وهذا يتجلّى في حكايته الفيتنامية.
لمّا زار فيتنام، بعد أن تحررت سايغون، ابتدأ بزيارة هانوي، وحين تجوّل في شوارع تلك المدينة التي ألهمت شعوب العالم المتطلعة للحرية، دخل متجرا صغيرا، فالتقى بفتاتين، وكعادته تجاذب معهما الحديث، وهو بطبعه محب للتحدث مع الناس، وسماع آرائهم، وتلمس همومهم، دون إشعارهم بأنه فنان مشهور، لأنه منهم حقا، ولأن الفن وسيلته للتعبير عنهم، وعن تطلعاتهم، وما تختزنه نفوسهم من غضب، ورفض للظلم، وتوق للحرية.
سأل إحدى الفتاتين عن أمنية تتمناها، فأخبرته أنها تحب الموسيقى، وتتمنى لو تمتلك قيثارة لأنها تجيد العزف، ولكنها لا تمتلك قيثارتها الخاصة.
غادر ناجي وزميله الشاعر خالد أبوخالد إلى مدينة بعيدة عن هانوي، وبعد أسبوع عادا إلى هانوي، فطلب ناجي من المرافق الفيتنامي أن يأخذه إلى محل يبيع الأدوات الموسيقية.
اشترى ناجي قيثارة، وتوجه مع خالد والمرافق إلى المحل التجاري الصغير، وكانت المفاجأة أنه لم يجد البائعة الفيتنامية الشابة، التي أخبرته صديقتها بأنها نقلت إلى مكان آخر خارج هانوي، وطمأنته أنها ستعود لزيارتها بعد أسبوع، فهما ستبقيان على تواصل لما بينهما من صداقة ورفقة عمل طويلة.
على الورق الذي يلف القيثارة كتب ناجي للفتاة: هدية من الفلسطيني..الذي يتمنى أن تعزفي دائما للحرية في كل مكان من هذا العالم..لحرية فلسطين التي ستتحرر كما تحررت فيتنام.
ترك القيثارة عند زميلة الفتاة، ومع خالد واصلا رحلتهما في ربوع فيتنام..خالد يقرأ أشعار قائد فيتنام العظيم (هو شي منه)، ويكتب مقاطع شعرية مستوحاة من مشاهداته، وناجي يرسم وجوها، ومشاهد، و..يحلم بأن يرى فلسطين محررة ، كما تحرر جنوب فيتنام، بعد هزيمة الأميركان، وهرب السفير الأمريكي بفردة حذاء واحدة، تاركا خلفه الفردة الثانية لشدة هلعه..فردة الحذاء رمز الهزيمة الأمريكية!
هذا هو ناجي العلي الإنسان، ولهذا سيخلد، سيعيش حتى زمن بعيد، وستتذكره أجيال آتيه في كل بلاد العرب، ستستلهم لوحاته، وكلماته، وسيندثر قادة ملأوا الحياة ضجيجا وصخبا، تلاشوا بعد أن أزيحت عن وجوههم عدسات الكاميرات، لأن ناجي، من حيث لا يقصد، بفنه الخالد، كان القائد الثوري الشعبي الحقيقي.
ناجي الفنان الحي يزداد محبوه وأصدقاؤه يوميا، فهو عصي على النسيان، وهو سيبقى ما بقيت فلسطين، وما بقيت مقاومة، وبعد أن تتحرر فلسطين، لأن الفلسطينيين الآتين سيرون فيه سيرتهم، ومسيرتهم، ومكابدات شعبهم، و( فنهم) بريشة ناجي العلي، فنانهم، وصوتهم، وملهم أجدادهم، وآبائهم، أولئك الذين لم ينكسروا رغم أهوال رحلتهم.
25 عاما على رحيل ناجي العلي، ومع ذلك فشعبيته، وحضوره..في ازدياد، وفنه في انتشار، ليس في مخيمات الفلسطينيين، ولا في السجون الصهيونية، ولكن في كل الوطن العربي، في أوساط الفقراء عدّة الثورة وعتادها.
دائما سُئلت: من قتل ناجي؟
أجبت على هذا السؤال في عمل تسجيلي عرضته إحدى الفضائيات: تأملوا لوحات ناجي، وستتعرفون على وجوه القتلة، وأسمائهم، وعناوينهم.
القتلة ماتوا، وسيواريهم النسيان..وناجي سيحيا، سيحيا كثيرا جدا، لأن فنه يطلق نشيد الحرية في فضاء وطننا العربي الكبير باستمرار، ولذا سيخلد فن ناجي، وسيعبر الأزمنة... 
 بقلم : رشاد أبو شاور
 

وثائقي عن ناجي العلي

COMMENTS

طريقة تفعيل هذه الاضافة :- اضغط علي المربع اسفل كلمة مرئي لتفعيل علامة صح وبهذا تكون قد فعلت الخاصية طريقة ايقاف هذة الخاصية :- اضغط علي المربع اسفل كلمة مرئي لالغاء علامة ( √ ) وبهذا تكون قد اوقفت الخاصية
الاسم

أدب و فنون,33,أعمدة مغربية,55,اقتصاد و إعلام,23,الربيع العربي,131,المزيد,82,جديد الكتب و المجلات,28,حريات و حقوق,31,دراسات حول المجتمع المغربي,18,سياسة مغربية,45,علوم وتكنولوجيا,2,عمال و نقابات,7,في دقائق,4,مجتمع مدني,18,مواقف حزبية,18,
rtl
item
مدونة الشعب يريد : ناجي العلي الفن العابر للأزمنة ( + فيلم وثائقي )
ناجي العلي الفن العابر للأزمنة ( + فيلم وثائقي )
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEgO6nINTI7I7wy-sX2A2mZqZlTRbE9uDLywLQzFcwQPyqwmPy2Q0aisiphdkYcsx9z6VRjHJaWxLotjOX7YebbrqHdqWAHoBVJqQolzg6BruVhuQ4g3EOR2yZTM-iOAmzjrE-MecUfGyUWN/s1600/2227.jpg
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEgO6nINTI7I7wy-sX2A2mZqZlTRbE9uDLywLQzFcwQPyqwmPy2Q0aisiphdkYcsx9z6VRjHJaWxLotjOX7YebbrqHdqWAHoBVJqQolzg6BruVhuQ4g3EOR2yZTM-iOAmzjrE-MecUfGyUWN/s72-c/2227.jpg
مدونة الشعب يريد
https://slailymohammed.blogspot.com/2012/09/blog-post_2204.html
https://slailymohammed.blogspot.com/
https://slailymohammed.blogspot.com/
https://slailymohammed.blogspot.com/2012/09/blog-post_2204.html
true
3090944207328741838
UTF-8
Loaded All Posts Not found any posts VIEW ALL Readmore Reply Cancel reply Delete By Home PAGES POSTS View All RECOMMENDED FOR YOU LABEL ARCHIVE SEARCH ALL POSTS Not found any post match with your request Back Home Sunday Monday Tuesday Wednesday Thursday Friday Saturday Sun Mon Tue Wed Thu Fri Sat January February March April May June July August September October November December Jan Feb Mar Apr May Jun Jul Aug Sep Oct Nov Dec just now 1 minute ago $$1$$ minutes ago 1 hour ago $$1$$ hours ago Yesterday $$1$$ days ago $$1$$ weeks ago more than 5 weeks ago Followers Follow THIS PREMIUM CONTENT IS LOCKED STEP 1: Share to a social network STEP 2: Click the link on your social network Copy All Code Select All Code All codes were copied to your clipboard Can not copy the codes / texts, please press [CTRL]+[C] (or CMD+C with Mac) to copy Table of Content