د.ادريس بنعلي اعتدنا في المغرب على وصف أي حدث بالتاريخي. وهكذا، صار فوز المنتخب الوطني لكرة القدم على منتخب إفريقي متواضع حدثا تاريخ...
د.ادريس بنعلي |
صحيح أن الجميع سعيد بتمكن المنتخب الوطني من التأهل لنهائيات كأس إفريقيا
للأمم، غير أن هذا الحدث ليس تاريخيا على الإطلاق، ولا يمكن أن يكون
تاريخيا في المجال الكروي في بلادنا سوى نصر على البرازيل أو فوز على
إسبانيا، أحسن منتخب في العالم في الوقت الراهن. يجب أن نتوقف عن تضخيم
الأشياء ونتفادى إطلاق صفة «التاريخي» على أي حدث، لأن هذا السلوك من
علامات التخلف.
الواقع أنه يعتبرُ تاريخياً كلُّ حدثٍ يحتل مكانة متميزة في مسار تاريخ أمة معينة، بحيث يترك بصمته في مسارها التنموي ويكون له دور ملموس في تطور البلاد ويستطيع الخلود في الذاكرة الجماعية أو الحضور فيها بقوة على مدى أجيال. ولا أعتقد أن مباراة المغرب والموزمبيق تندرج في خانة هذه النوعية من الأحداث.
في الحقيقة، اعتدنا تبخيس أشياء هامة والرفع من شأن أخرى أقل أهمية. لم نعد قادرين على تقدير الأمور حق قدرها، وصرنا نجرد الأشياء من معانيها، وهو ما يمكن أن ننعته بـ«خلق المشاكل» وليس بـ«صناعة التاريخ». والمثير أن هذا السلوك لا يحضر في الرياضة فقط، بل إنه يبرز بشكل أكثر وضوحا في الميدان السياسي. وهكذا، يوصف أي تدشين أو مجرد تنقل لمسؤول سياسي من مستوى معين بـ«التاريخي»، حتى صار يشار، ادعاء وافتراء، إلى أشخاص عديمي الضمير والكفاءة بأنهم يستطيعون صناعة التاريخ. ومنهم من اعتقد أن الوقت حان ليتصدر المشهد السياسي ولم يجد حرجا في تقديم نفسه في صورة منقذ للبلاد. نموذج ذلك عمدة مدينة مغربية هامة قرر تشييد محج به قوس نصر في مدينته يحاكي محج «الشانزيليزيه» في العاصمة الفرنسية باريس.
المؤكد أنه يريد تقليد ومحاكاة نابوليون؛ ولذلك نود أن يكشف لنا على شرف من ينوي تشييد قوس النصر الموعود. يملك نابوليون سجلا حافلا بالانتصار بصفته قائدا عسكريا، ولا يقارعه في ذلك سوى اسمين اثنين هما الإسكندر وسيزار؛ فماذا عن عمدتنا؟
لقد مكننا من حسم «معركة كبرى» ضد خصم قوي: أسر بورجوازية متجذرة جدا في النسيج الاجتماعي. ليس هذا بنصر. المزعج في هذه القضية أن «نابوليوننا المحلي» لم يستعن في هذه المعركة بالأسلحة أو أنه، بتعبير أكثر دقة، استنجد بسلاح من نوع خاص: المكر والمناورة وسياسة القرب (وتعني شراء ذمم ذوي الضمائر الضعيفة والمحتاجين).. إنها وسيلة، ضمن وسائل أخرى، يستعين بها ليصبح بطلا أو بالأحرى زعيما، حسب المتداول في المشهد السياسي المغربي. سرعان ما سينتقل هذا «الزعيم التاريخي» إلى مهاجمة «زعماء» آخرين يتوهمون أنهم يقومون بأعمال تاريخية، والدليل على ذلك أنهم يوجدون في السلطة منذ مدة، ولا يعرفون إلى حدود الساعة أي اتجاه يسلكون.. إنهم يبحرون حسب اتجاه الريح ولا يعلمون إلى أي وجهة يسيرون. المؤكد أنهم يضرون بالبلاد في بعض الحالات، ونموذج ذلك وزير التربية الوطنية الذي عهدت إليه مسؤولية تربية وتكوين الأجيال الصاعدة، فأصبح مصدر إحباط بالنسبة إلى هذه الأجيال؛ فما الذي يمكن أن ننتظره من هذه النوعية من المسؤولين الذين يجدون صعوبة في فهم طبيعة مهامهم والتحلي بالرزانة والمسؤولية في تصريحاتهم؟
يعتمد نشاط الساسة «التاريخيين» من هذه النوعية على المكر والدهاء والديماغوجيا، متوهمين أنهم ارتقوا إلى مستوى يستحيل معه تصور المشهد السياسي المغربي من دونهم. غير أنهم لا يفطنون إلى الفراغات التي تطبع خطاباتهم وتتبدى بوضوح في أنشطتهم السياسية المفتقرة إلى الانسجام. ويكفي تتبع السياسة المتعبة من قبل الحكومة الحالية للوقوف على حقيقة تلك الأنشطة، التي تعتبر تراجعا في الحياة السياسية المغربية. وقد تقوى حضور هذا النوع من الأنشطة بسبب تفريط الأحزاب السياسية العتيقة في استقلاليتها وتفريخ الأحزاب على شاكلة «الأكلات السريعة»، بالإضافة إلى الاختفاء شبه النهائي لمعارضة حقيقية، مستقلة وذات مصداقية. وعلى هذا الأساس، انتهينا إلى ديمقراطية سطحية تخرج كائنات لا ضمير لها ولا همَّ عدا تحقيق مآربها الشخصية.
إنها سخرية السياسة التي تقدم الديمقراطية وتشجع الأمل في مستقبل زاهر، لكنها تترجم على أرض الواقع إلى تفاهات محبطة لآمال الحالمين بمغرب حديث ومزدهر. السياسة التي تخلق الفراغ وتتولى بنفسها ملأه بطبقة سياسية مدجنة لا تنشغل بترك بصمتها في تاريخ البلاد. ولعل هذا ما جعل بعض الأحزاب، التي كانت في وقت مضى منارات شامخة بأفكارها وزعمائها واستقلاليتها عن السلطة، تتحول اليوم إلى مجرد ظل لنفسها.. لقد فرطت في استقلاليتها وغلب الخضوع على سلوكها وطغت التوافقات على أعمالها. وبذلك، زالت مشاعر الفخر والاعتزاز بتضحيات الزعماء المؤسسي لهذه التيارات الحزبية ونضالهم، تاركة مكانها للانتهازية والعبودية، وهو ما أفقدها تقدير واحترام الشعب؛ فكما قال الفيلسوف الألماني الشهير كانط: «من يقبل التحول إلى إناء من فخار لا يشْتـَكِيـَنَّ حين يداس بالأقدام».
الواقع أنه يعتبرُ تاريخياً كلُّ حدثٍ يحتل مكانة متميزة في مسار تاريخ أمة معينة، بحيث يترك بصمته في مسارها التنموي ويكون له دور ملموس في تطور البلاد ويستطيع الخلود في الذاكرة الجماعية أو الحضور فيها بقوة على مدى أجيال. ولا أعتقد أن مباراة المغرب والموزمبيق تندرج في خانة هذه النوعية من الأحداث.
في الحقيقة، اعتدنا تبخيس أشياء هامة والرفع من شأن أخرى أقل أهمية. لم نعد قادرين على تقدير الأمور حق قدرها، وصرنا نجرد الأشياء من معانيها، وهو ما يمكن أن ننعته بـ«خلق المشاكل» وليس بـ«صناعة التاريخ». والمثير أن هذا السلوك لا يحضر في الرياضة فقط، بل إنه يبرز بشكل أكثر وضوحا في الميدان السياسي. وهكذا، يوصف أي تدشين أو مجرد تنقل لمسؤول سياسي من مستوى معين بـ«التاريخي»، حتى صار يشار، ادعاء وافتراء، إلى أشخاص عديمي الضمير والكفاءة بأنهم يستطيعون صناعة التاريخ. ومنهم من اعتقد أن الوقت حان ليتصدر المشهد السياسي ولم يجد حرجا في تقديم نفسه في صورة منقذ للبلاد. نموذج ذلك عمدة مدينة مغربية هامة قرر تشييد محج به قوس نصر في مدينته يحاكي محج «الشانزيليزيه» في العاصمة الفرنسية باريس.
المؤكد أنه يريد تقليد ومحاكاة نابوليون؛ ولذلك نود أن يكشف لنا على شرف من ينوي تشييد قوس النصر الموعود. يملك نابوليون سجلا حافلا بالانتصار بصفته قائدا عسكريا، ولا يقارعه في ذلك سوى اسمين اثنين هما الإسكندر وسيزار؛ فماذا عن عمدتنا؟
لقد مكننا من حسم «معركة كبرى» ضد خصم قوي: أسر بورجوازية متجذرة جدا في النسيج الاجتماعي. ليس هذا بنصر. المزعج في هذه القضية أن «نابوليوننا المحلي» لم يستعن في هذه المعركة بالأسلحة أو أنه، بتعبير أكثر دقة، استنجد بسلاح من نوع خاص: المكر والمناورة وسياسة القرب (وتعني شراء ذمم ذوي الضمائر الضعيفة والمحتاجين).. إنها وسيلة، ضمن وسائل أخرى، يستعين بها ليصبح بطلا أو بالأحرى زعيما، حسب المتداول في المشهد السياسي المغربي. سرعان ما سينتقل هذا «الزعيم التاريخي» إلى مهاجمة «زعماء» آخرين يتوهمون أنهم يقومون بأعمال تاريخية، والدليل على ذلك أنهم يوجدون في السلطة منذ مدة، ولا يعرفون إلى حدود الساعة أي اتجاه يسلكون.. إنهم يبحرون حسب اتجاه الريح ولا يعلمون إلى أي وجهة يسيرون. المؤكد أنهم يضرون بالبلاد في بعض الحالات، ونموذج ذلك وزير التربية الوطنية الذي عهدت إليه مسؤولية تربية وتكوين الأجيال الصاعدة، فأصبح مصدر إحباط بالنسبة إلى هذه الأجيال؛ فما الذي يمكن أن ننتظره من هذه النوعية من المسؤولين الذين يجدون صعوبة في فهم طبيعة مهامهم والتحلي بالرزانة والمسؤولية في تصريحاتهم؟
يعتمد نشاط الساسة «التاريخيين» من هذه النوعية على المكر والدهاء والديماغوجيا، متوهمين أنهم ارتقوا إلى مستوى يستحيل معه تصور المشهد السياسي المغربي من دونهم. غير أنهم لا يفطنون إلى الفراغات التي تطبع خطاباتهم وتتبدى بوضوح في أنشطتهم السياسية المفتقرة إلى الانسجام. ويكفي تتبع السياسة المتعبة من قبل الحكومة الحالية للوقوف على حقيقة تلك الأنشطة، التي تعتبر تراجعا في الحياة السياسية المغربية. وقد تقوى حضور هذا النوع من الأنشطة بسبب تفريط الأحزاب السياسية العتيقة في استقلاليتها وتفريخ الأحزاب على شاكلة «الأكلات السريعة»، بالإضافة إلى الاختفاء شبه النهائي لمعارضة حقيقية، مستقلة وذات مصداقية. وعلى هذا الأساس، انتهينا إلى ديمقراطية سطحية تخرج كائنات لا ضمير لها ولا همَّ عدا تحقيق مآربها الشخصية.
إنها سخرية السياسة التي تقدم الديمقراطية وتشجع الأمل في مستقبل زاهر، لكنها تترجم على أرض الواقع إلى تفاهات محبطة لآمال الحالمين بمغرب حديث ومزدهر. السياسة التي تخلق الفراغ وتتولى بنفسها ملأه بطبقة سياسية مدجنة لا تنشغل بترك بصمتها في تاريخ البلاد. ولعل هذا ما جعل بعض الأحزاب، التي كانت في وقت مضى منارات شامخة بأفكارها وزعمائها واستقلاليتها عن السلطة، تتحول اليوم إلى مجرد ظل لنفسها.. لقد فرطت في استقلاليتها وغلب الخضوع على سلوكها وطغت التوافقات على أعمالها. وبذلك، زالت مشاعر الفخر والاعتزاز بتضحيات الزعماء المؤسسي لهذه التيارات الحزبية ونضالهم، تاركة مكانها للانتهازية والعبودية، وهو ما أفقدها تقدير واحترام الشعب؛ فكما قال الفيلسوف الألماني الشهير كانط: «من يقبل التحول إلى إناء من فخار لا يشْتـَكِيـَنَّ حين يداس بالأقدام».
*جريدة المساء (عدد يومي 20/21 أكتوبر 2012)
COMMENTS